Tuesday, April 2, 2013

ماما

ان يبتاع البشر احتياجاتهم  من المتاجر امر عادى لا غبار عليه فقد خلقنا لنتكامل , هذا الامر لم يكن اختراعا ولا اكتشاف.. هو فقط نتاج لاختلاط الناس وتنامى حاجاتها.. فالبيع بالعملات الورقية والمعدنية هو تطور اصيل لعملية المقايضة ,فعلى سبيل ضرب الامثلة التاريخية نجد ان اجدادنا ممن يملكون البقر كان يقايضون جيرانهم من مُرَبْى الطيور فيستبدلون منتجات الالبان بالطيور ومنتجاتها ,, وهكذا تطور الامر الى ان صك احدهم اول عملة ودشن عليها اسمه وصورته وجعل حياتهم اسهل وصورته ابقى واكثر ثباتا فى اذهان الناس وفى ايديهم ايضا .. واليوم فى مقابل حفنة عملات تستطيع ان تشترى كل شىء .. وأى شىء, تستطيع ان تمتلك ما تحتاجه وما لا تحتاجه , تستطيع ان تكون ما تريد شريطة تُمٌلُكِكَ المال . ولكنك لن تستطيع شراء السعادة.
ما هذا السخف الذى افكر فيه لم يتبقى لى سوى ان اتقمص دور يوسف بك وهبى لاطلق ضحكته الشهيرة واغير نبرة صوتى معلنة انه "وما الدنيا الا مسرح كبير"
كفانى سخفا لنرى ماذا علي انا افعل, انه ميعاد ادويتى .. يوميا ابعث بسلامى لذلك العظيم مخترع رسائل التذكير على الهاتف فهو بالطبع قد افنى حياته فى التعويض على امثالى من ذوى الاذهان الشاردة .
قاربت الساعة على العاشرة صباحا وستأتينى امى فى غضون دقائق لتنهى تفتيشها المعتاد على استقرار اوضاعى وجرعات ادويتى وثباتى فى مكانى بلا تحرك .. لم اكن اريد اخبارها بمرضى منذ البداية لهذا السبب فهى دائمة الالحاح على الا اتحرك ودائمة التذمر من نسيانى لمواعيد الدواء بل وهى صاحبة فكرة رسائل التذكير عبر الهاتف والتى لا تثق بها احيانا فتتصل بى لتذكرنى بنفسها وتطمئن ان جرعات الدواء قد استقرت فى معدتى وفى طريقها لصب مفعولها السحرى فى اوردتى..
"الادوية غالية حرام عليكى متضيعيش تعبك ع الفاضى وخلى املك فى ربنا كبير وادعى المرة دى يجبر بخاطرك يا بنتى"
دائما ما اتذكر عبارتها التى ظلت طيلة فترة مرضى ترددها على مسامعى محاولة بث جرعة امل تصاحب جرعة الدواء لايمانها ان الحالة النفسية السليمة تستطيع قهر اى مرض
ولكن اليوم الامر مختلف ..فالدواء لم يعد له اى يتأثير لانه ميعاد اجراء فحص الحمل والذى سوف يجزم ان كانت عملية الاخصاب الصناعى عن طريق حقن الاجنة المجهرى قد لاقى نجاحا ام فشل للمرة الثالثة.. سأعرف بعد ساعات قليلة ان كان شهر من الادوية والاستلقاء وتناول الاغذية الصحية والبعد عن التدخين والتوتر قد جاء بنتيجته هذه المرة ام ان الامر لم يجدى نفعا كسابقتيه من المحاولتين الفاشلتين اللتان استهلكتا الكثير من المال والجهد والاعصاب.
احيانا اغمض عيني وارى الطبيب وهو يخبرنى بما اردت سماعه طويلا .. يبشرنى بتلك الامنية الغائبة عنى منذ سبع سنوات والتى صارت مستحيلة بعد كل هذا الكم من الادوية والعمليات الجراحية والاستشارات الطبية  داخل البلاد وخارجها.
ولاح لى من بعيد نتيجة لفحص قديم كان يُنبؤ حينها اننى قد شفيت من اورام أُزيلت من جسدى بعد ان تركت لعنتها على امومتى واطلت لى برأسها وهى تذوب فى مختبر طبى وتتحلل معلنة ان نهايتها ليست نهاية المعركة .. بل اننى انا من بدأت لتوى معركة فى ازالة اثار عدوانها على انوثتى التى لاقت خسائرا عميقة اثر الجراحات الطبية وجرعات العلاج الكيميائية اضافة الى احتلال سمومها للارض المتنازع عليها بينى وبينها  ليظل جهازى الانثوى المنوط بالانجاب عاجزا عن مداواة اثار العدوان وغير قادر على منحى السعادة التى احتملت الكثير لالقاها.
اذن فالنهاية الحقيقية للمعركة بينى وبين تلك الاورام تتحدد اليوم ان كنت ساعيش ام كاملة ام اننى سأصير كيان لا مفهوم وليس له صفة فى هذه الحياة..سنوات عمرى تخطت الخامسة والثلاثون ولازلت احلم فى كل يوم وليلة ان اسمع كائنا يخرج من احشائى ويبكى , ان يكبر وارى عينيه تلمع حين يرانى , ان يعود من المدرسة ليسأل عنى ويبكى حال علمه اننى ساغيب عنه لبرهه.. ان يثقل كتفى برأسه وهو نائم فى طريق عودتنا الى البيت وانا احمله بهدوء حتى لا ينزعج ويستيقظ  معلنا تذمره من كونى سرير متنقل غير مريح , ان اسمعه ينطق بتلك العبارة التى لا تقدر بثمن "ماما" لعلى حينها سأطلب منه اعادتها الاف المرات , من المحتمل ان ابكى فرحا فى كل مرة يجيب ندائى قائلا " نعم يا ماما " , لا اعرف ما سأفعل ولكنى لا اريد الافراط فى التخيل والتفكير لانه ببساطة لعلى اقف امام الطبيب اليوم ليخبرنى بانه اسف للمرة الثالثة وبان نتيجة الفحص سلبية للمرة الثالثة وبانى امرأة عاقر بلا امل ولا مستقبل وليس لديها من تربيه صغيرا او يبرها كبيرا ويأويها وهى مسنة..لعلى ساواجه شبح الموت بدار للعجزة مرة اخرى واظل انتفض رعبا من كابوس قد ارى فيه موت امى وتركها اياى وحيدة , او ذلك النوع الاخر من الكوابيس الاقل فتكا والتى ارى فيها زوجى وهو يصارحنى بانه لابد له وان ينجب من يحملون اسمه وبانه لن يستطيع الانتظار مطولا ويكتمل الحوار بينى وبينه ليصل لنقطة اللاعودة فيصبح جل ما اطلبه منه هو ان يتركنى بما تبقى لى من انسانية ويقينى شر ان ارى غيرى تشاركنى فيه واسمع اولاده يقولون لغيرى "ماما" ,, فانصرف من حياته وينتهى الكابوس الخاص به ليتبقى لى شبخ الحياة وحيدة , والموت بلا حبيب ولا ابن يذكروننى بصلواتهم مرفقين باسمى عبارة اعتراضية تدعو لى بالرحمة والمغفرة.
ها هى افكارى تجرفنى الى البكاء وقد يتطور الى نوبة بكاء هيستيرى تدخلنى فى حالة اكتئاب لا نهاية لها.. لارى ماذا يعرضون بالتلفاز اليوم لحين وصول والدتى,فوصولها سيمنعنى من الافكار والشرود ,
"دار الشفاء ,, لكل من حرموا من نعمة الانجاب حلمكم صار قريب اتصلوا بنا على الارقام الظاهرة وفريق اطبائنا سوف يرسمون البسمة على وجوهكم"
يا الله .. انها الحصار النفسى , الا يعلم اولئك الاوغاد ان التجارة باحلام الناس امر تعاقب عليه قوانين الانسانية والعدالة الكونية , الا يعلمون مدى التجريح الذى يقذفون به فى وجه امثالى باعلاناتهم السخيفة , اليست المقايضة والتبادل التجارى مسموح فقط فيما يختص بحاجات الناس ومتطلباتهم  ومحرم حينما يدخل دائرة احلامهم واوجاعهم .. انهم تجار الاوجاع من المؤكد انهم لا يكترثون بأمثالى من المعذبين بمصائرهم ويحتاجون من يخفف عنهم اوجاعهم لا من يُعَلِبُ لهم ما حرموا منه ويعرضه فى مادة اعلانية مدفوعة الاجر فى انتظار القادمين المحملين باوجاع جسدية ونفسيه ليكملوا عملية ابتزازهم بحرفية جزار يستعد للاستفادة بكل جزء صغير من ضحيته ليبيع منها قدر ما يستطيع , تبا لتجارة الاحلام وتبا لتجار اوجاع البشر , الا يكفينا نبذ الاقارب والجيران لامثالنا خوفا على اولادهم من الحسد , الم يكتفوا بنظرات الشفقة والعطف فى عيون الاقرباء , لقد قاربت على الخمس سنوات لم اجرؤ على حضور مناسبة اجتماعية واحدة خشية التعرض للتجاهل او الاضطرار الى التعامل مع مظاهر الشفقة والهمزات التى تحاك خلف ظهرى بمجرد رحيلى 

اليوم , قد اصير سيدة قادرة على المواجهة والعودة للحياة من جديد والتفكير بآمالى المؤجلة ومحاولة تحقيقها , وقد استعد لاكمال حياة بائسة وعزلة لا منتهية ارى فيها مصيرا محتوما بفراق الجميع والالتفاف حول نفسى ,, وحدى 


ها هو صوت طرق الباب
وصلت ماما



تمت